كل المؤشرات والمعطيات تشير إلى أن القطاع المصرفي في الولايات المتحدة ليس على ما يرام، حيث يُتوقع أن يستمر أداء المصارف الأميركية في مواجهة التحديات في ما تبقى من هذا العام، مع بطء النمو وسط ارتفاع تكاليف التمويل والائتمان.
كما أن الركود المعتدل في أوائل العام المقبل قد يؤدي إلى تشديد شروط الائتمان أكثر، وتدهور جودة الأصول، وزيادة احتمالية تآكل رأس المال، وارتفاع خسائر القروض.
وكانت المصارف الأميركية تلقت ضربات متتالية من العديد من وكالات التصنيف الإئتماني في الآونة الأخيرة، ما يهدد بجعل الاقتراض أكثر صعوبة بالنسبة للشركات والأفراد.
وكانت “ستاندرد آند بورز” أحدث وكالة تصنيف ائتماني تخفّض تقييمها لبعض المصارف الأميركية عندما خفضت تصنيفاتها لخمسة مصارف ووضعت اثنين آخرين على إشعار بخفض محتمل في المستقبل. وكان “كيكورب”، وهو المصرف العشرين الأكبر وفقاً للاحتياطي الفدرالي، أكبر مصرف يتم خفضه.
وجاء خفض التصنيف الائتماني لـ”ستاندرد آند بورز” في أعقاب إجراءات من قبل “فيتش” و”موديز”. الأولى قالت إنها تخفض التصنيف الائتماني للقطاع المصرفي الأميركي بأكمله، وهي خطوة قد تؤثر على تصنيفات المصارف الفردية، بما في ذلك بعض أكبر المصارف بما فيها مؤسسات مالية كبرى مثل “جي بي مورغان تشيس” و”بنك أوف أميركا”، من “إيه إيه –” إلى “إيه إيه”. والثانية خفّضت تصنيف 10 مصارف ووضعت ستة مصارف أخرى في إشعار.
اقرأ أيضاً: البنك السعودي الأول متفائل بشأن النمو
ضغوط وتحديات
تعرّض القطاع المصرفي في الولايات المتحدة إلى العديد من الضغوط، بعد سلسلة من ثلاثة إخفاقات مصرفية في ربيع هذا العام بدأت في مارس (آذار) عندما سحب المودعون أموالهم من مصرف “سيليكون فالي” بمعدل مليون دولار في الثانية.
وقد تفاقمت التحديات التي يواجهها القطاع بفعل حملة الاحتياطي الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة بهدف سحق التضخم، والتي أدت إلى وضع المصارف في بيئة صعبة. فرفع أسعار الفائدة إلى أعلى مستوى له منذ عام 2001 تسبب في خفض قيمة الأصول التي تحتفظ بها المصارف الإقليمية، وأجبرتها على دفع أسعار فائدة أعلى للمودعين وتتسبب في خفض الإئتمان وسط بيئة أسعار الفائدة المرتفعة.
كما أن انخفاض توافر الائتمان يضر بقدرة المستهلكين على الإنفاق، وقدرة الشركات على التوظيف والتوسع، مما يضع عبئاً إضافياً على الاقتصاد الذي يطحن بالفعل تحت وطأة رفع أسعار الفائدة.
ومن التحديات التي يواجهها القطاع أيضاً احتمال أن تدخل الولايات المتحدة في ركود متوقع منذ فترة طويلة، أو أن تخسر المصارف الكثير من الأموال على القروض العقارية التجارية وسط انخفاض في قيمة المساحات المكتبية بسبب اتجاهات العمل من المنزل.
ولكن ماذا يعني خفض التصنيف؟
لقد أثار الخفض الأخير للمصارف الأميركية جدلاً بشأن صحة القطاع المصرفي. فماذا يعني هذ الخفض وكيف ينعكس على أداء المصارف؟
نوجز في الآتي بعض النتائج التي تترتب في العادة جراء خفض للقطاع المصرفي:
أولاً، التأثير على تكاليف الاقتراض: عادة ما يترجم خفض التصنيف إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض للمصارف المتضررة. فكون أن التصنيفات الائتمانية تؤثر على أسعار الفائدة على القروض، فإن التصنيف الأدنى يشير إلى أن المصارف قد تحتاج إلى تقديم أسعار فائدة أعلى لجذب المستثمرين، مما يؤثر على ربحيتها.
ثانياً، تصور المخاطر: تمثل التصنيفات الائتمانية الجدارة الائتمانية لأي مؤسسة. وبالتالي، فإن الخفض يشير إلى زيادة المخاطر المتصورة المرتبطة بعمليات المصرف، والتي يمكن أن تضر بثقة المستثمرين في استقرار المؤسسة.
ثالثاً، قد يكون للخفض تداعيات تنظيمية. بمعنى أنه لحماية استقرارها، يجب على المصارف الحفاظ على مستويات محددة من رأس المال. وللوفاء بالمعايير التنظيمية، قد يتطلب خفض التصنيف الاحتياطي احتياطات إضافية لرأس المال.
رابعاً، معنويات السوق: يمكن أن يكون لأخبار الخفض تأثير على معنويات السوق. إذ يمكن للمستثمرين تعديل محافظهم الاستثمارية استجابة لذلك، مما يتسبب في تقلب أسعار أسهم المؤسسات المتأثرة.
خامساً، المؤشر الاقتصادي: تعتبر سلامة القطاع المصرفي أحياناً مؤشراً على الصحة الاقتصادية العامة. قد يخلق الخفض مخاوف بشأن سلامة النظام المالي بشكل عام والتأثير المحتمل على النمو الاقتصادي.
ومن شأن قرارات مجلس الاحتياطي الفدرالي رفع سعر الفائدة القياسي، إلى جانب تشديد معايير الإقراض من قبل المصارف، أن يزيد المشهد تعقيداً.
وبصرف النظر عن المخاوف المتعلقة بمعدلات الفائدة، يواجه القطاع المصرفي الأميركي احتمالات حدوث ركود متوقع وخسائر محتملة على القروض العقارية التجارية بسبب اتجاهات العمل عن بعد.
مشهد مالي أوسع
يشير تقرير لـ”فايننس ماغنيتس”، إلى أنه في حين أن التخفيضات الأخيرة قد أثارت الاستغراب والصدمة، فمن الأهمية بمكان وضعها في سياق المشهد المالي الأوسع والتي يمكن إيجازها بالتالي:
– تسببت المخاوف الاقتصادية العالمية، مثل الوباء المستمر والتوترات الجيوسياسية، في تقلب الأسواق المالية. ويمكن أن تؤثر أوجه عدم اليقين هذه على التصنيفات الائتمانية عندما تقيّم الوكالات الأثر المحتمل على العمليات المصرفية.
– منذ الأزمة المالية لعام 2008، خضعت أساليب إدارة المخاطر في المصارف لتدقيق شديد. وقد يشير الخفض إلى أحكام الوكالات بشأن مدى قدرة المصارف على التعامل بشكل صحيح مع المخاطر المحتملة.
– يشهد القطاع المصرفي اضطرابات نتيجة للتحسينات التكنولوجية، وتغيير سلوكيات المستهلك، وصعود شركات التكنولوجيا المالية. وقد يعكس خفض التصنيف قدرة المصارف على التكيف مع هذه التغييرات.
لكن القلق الأكبر هو أن يتسبب خفض تصنيف المصارف الأميركية في إحداث تأثير في جميع أنحاء النظام البيئي المالي. ففي العادة، يراقب المستثمرون تحركات التصنيف الإئتماني والتي تؤثر على قراراتهم في إدارة محافظهم الاستثمارية، وأي خفض قد يستلزم إجراء تعديلات على هذه المحافظ حيث يقومون بفحص التأثير على ممتلكاتهم وحيازاتهم في المصارف المتأثرة.
كما أن أخبار الخفض من شأنها أن تضيف إلى تقلبات السوق. أي أنه يمكن أن تكون لتقلبات أسعار أسهم المصارف التي تم خفضها تأثير على مؤشرات السوق الأشمل.
حتى أن السلطات التنظيمية قد تواجه الخفض من خلال سن تدابير للاستقرار المالي، ما يعني تحكماً إضافياً أو تغييرات في متطلبات رأس المال.
ويمكن أيضاً أن تؤثر تكاليف الاقتراض المرتفعة للمصارف المخفّضة على أسعار الإقراض في الاقتصاد الأوسع، مما يضر بقرارات اقتراض وإنفاق الشركات والمستهلكين.
باختصار، لا شك أن التخفيضات الأخيرة للمصارف الأميركية تعتبر تطوراً متعدد الأوجه له عواقب بعيدة المدى. لكن لا بد من التذكير بأن التصنيفات الائتمانية هي عادة عرضة للتغيير استجابة للظروف الاقتصادية المتغيرة والديناميات التنظيمية.
إلا أن الخفض هو بمثابة تذكير بتعقيدات النظم المالية وبوجوب التشدد في تطبيق إجراءات إدارة المخاطر، وتسليط الضوء على دور الرقابة التنظيمية في ضمان الاستقرار المالي.
صحيح أن خفض التصنيف قد تكون له عواقب قصيرة الأجل، إلا أنه يوفر فرصة للتأمل ولإدخال تعديلات على الصناعة المصرفية بشكل يتماشى مع التطورات الاقتصادية والمالية.
انقر هنا للاطلاع على المزيد من أخبار المصارف والتمويل.