انطلقت أوّل أزمة اقتصاديّة عرفها التاريخ في المملكة البريطانيّة، في عام 1772، وعرفت باسم “أزمة الائتمان”.
بدأت هذه الأزمة في لندن، وانتشرت في عموم أوروبا، وذلك عندما كوّنت بريطانيا ثروة هائلة من خلال ممتلكاتها الاستعمارية وتجارتها في فترة 1760. وكان النمو الاقتصادي في تلك الفترة، يعتمد بشدة على استخدام الائتمان الذي يستند إلى حد كبير على ثقة الناس في البنوك.
خلق ذلك حالة من الإفراط في التفاؤل، أفضت إلى التوسع الائتماني السريع من قبل العديد من البنوك البريطانية.
وقد انتهى هذا التفاؤل بشكل مفاجئ في 8 يونيو/حزيران 1772، عندما فر ألكساندر فورديس، أحد شركاء البنك البريطاني “Neal, James, Fordyce and Down” إلى فرنسا، هرباً من سداد ديونه.
آثار الأزمة
بعدها، انتشرت أنباء الهروب، وعمّت حالة من الفزع في إنجلترا، وفي الوقت الذي بدأت تهتز الثقة، تبع ذلك شلل في نظام الائتمان، حيث بدأ الدائنون في تشكيل طوابير طويلة أمام البنوك البريطانية للمطالبة بسحوبات نقدية فورية. حيث طالبوا بسداد الديون نقداً، أو سحب إيداعاتهم.
أعقب الأزمة، ارتفاع واضح في عدد حالات الإفلاس، حيث بلغ المتوسط في لندن 310، في الفترة بين 1764 إلى 1771.
إلا أن الرقم ارتفع إلى 484 في 1772 وإلى 556 في 1773.
وعانت البنوك التي شاركت في المضاربات، من ضائقات شديدة خلال الأزمة. ولم تعان البنوك التي امتنعت عن المشاركة في المضاربات، من أي خسائر، بل كسبت الاحترام لجودة أدائها، بصرف النظر عن الاضطرابات.
وتعرضت شركة الهند الشرقية المعروفة أيضاً باسم شركة جون، وهي شركة تشكلت في البدء لمزاولة التجارة مع جزر الهند الشرقية، ولكن انتهى بها الأمر بالمتاجرة مع شبه القارة الهندية والصين، لخسائر ضخمة وانهارت أسعار أسهمها بشكل مريع.
ونتيجة لاستثمارات دور الصرافة الهولندية الثقيلة في أسهم الشركة، عانت هي الأخرى من الخسائر، بجانب حاملي الأسهم أيضاً.
وبهذه الطريقة، انتشرت أزمة الائتمان من لندن إلى أمستردام.
1770-1772
وقد انتقلت الحالة إلى كل من اسكتلندا وهولندا، ودول أوروبية أخرى. ونتيجة لذلك، أعلنت 22 مؤسسة مصرفية إفلاسها أو أوقفت عمليات الدفع للعملاء، وعانت العديد من المؤسسات من ضائقات مالية.
ويرى بعض الخبراء، أن قطاعي التجارة والائتمان العام، لم يشهدا مثل هذه الضربة قبل 50 سنة.
فقبل الأزمة، ومنذ منتصف ستينيات القرن الثامن عشر إلى بداية السبعينيات منه، أسهمت الطفرة الائتمانية مدعومة بالتجار والمصرفيين، في تسهيل النمو الصناعي والتعدين وعمليات التحسين الداخلي في بريطانيا و13 من مستعمراتها.
وحتى اندلاع أزمة الائتمان، اعتُبرت الفترة من 1770 إلى 1772، حافلة بالازدهار والهدوء السياسي في بريطانيا والمستعمرات الأميركية.
ونتيجة لـ”قانون تاونشيند”، و”قانون حظر الواردات”، اتسمت الفترة بنمو كبير في الصادرات من بريطانيا إلى المستعمرات الأميركية، مدعومة بالائتمانيات التي يقدمها التجار البريطانيون للمزارعين الأميركيين.
حيث وضع قانون إيرادات Townshend لعام 1767 رسومًا على مختلف المواد الاستهلاكية مثل الورق والطلاء والرصاص والشاي والزجاج. وكان لا بد من استيراد هذه السلع البريطانية، حيث لم يكن لدى المستعمرات قاعدة تصنيع لإنتاجها.
كيف وصل الحال ببريطانيا إلى خوضها هذ الأزمة؟
قد تكون المشاكل الرئيسيّة التي أدت إلى طفرة الائتمان، أولا التوسّع السريع لاقتصادات بريطانيا ومستعمراتها وما رافقه من مضاربات وإنشاء مؤسسات مالية مشكوك فيها.
فعلى سبيل المثال، تبنى المصرفيون في اسكتلندا، ممارسة سيئة في سحب وإعادة سحب سندات الصرف الوهمية في محاولة لتوسيع دائرة الائتمان.
وبغرض زيادة الواردات المالية، عمد بنك “دوجلاس، هيرون آند كومباني”، المؤسس في اسكتلندا في 1769، بعد استنفاد رأس المال الأساسي، لجمع المال من خلال سلسلة من العملات الورقية.
وأغفل التجار البريطانيون والمزارعون الأميركيون تماماً، مؤشرات تكدس المنتجات في الرفوف والمستودعات، التي تدل على وقوع أزمة وشيكة.
آثار أزمة الائتمان على 13 مستعمرة
أدت أزمة 1772 إلى تدهور كبير في علاقة الدائن والمدين بين المستعمرات الأميركية وبريطانيا، خاصة في الجنوب. وتميزت المستعمرات الجنوبية، التي تنتج التبغ والأرز والصبغة النيلية وتقوم بتصديرها إلى بريطانيا، بالحصول على ائتمان أكثر، بالمقارنة مع نظيراتها في الشمال، حيث إنتاج سلع منافسة.
وقبل الأزمة، انتشر نظام العمولة التجارية في المستعمرات الزراعية الجنوبية، حيث يساعد التجار في لندن المزارعين على بيع محاصيلهم وشحن ما يرغب المزارعون في شرائه من لندن كمقابل.
وعادة ما تساوي العمولة سعر البضائع التي يتم شراؤها من لندن ناقص عائدات المحاصيل. ويحصل المزارعون على ائتمان لفترة قدرها اثنا عشر شهراً من دون فوائد وبنسبة 5 في المئة على المبلغ غير المدفوع بعد انقضاء فترة الدفع.
وبعد اندلاع الأزمة، طالب التجار البريطانيون بإعادة تسديد الدين وواجه المزارعون البريطانيون مشكلة حقيقية في كيفية ذلك لعدد من الأسباب. من بينها، أنه ونسبة للانتعاش الاقتصادي قبل الأزمة، لم يكن المزارعون مستعدين لتصفية دين واسع النطاق. وعند انهيار نظام الائتمان، تم رفض أوراق التداول وإرسال معظم الذهب الثقيل إلى بريطانيا.
ثم إنه ومن دون دعم الائتمان، ليس في مقدور المزارعين الاستمرار في إنتاج وبيع المحاصيل. ومنذ أن عم الشلل كل أرجاء السوق، فاقم تراجع أسعار المنتجات، الضغوطات الواقعة على المزارعين. وبسبب الأزمة، عانت المستعمرات من ضائقات شديدة في سبيل المحافظة على ميزان مدفوعاتها.
حزب الشاي
ووقعت بعضها سلسلة من الأحداث المرتبطة بسوق الشاي الاستعمارية. ومنها حادث 1773، عندما قام أميركيون باحتجاج شعبي على فرض البرلمان البريطاني ضرائب على الشاي المستورد إلى المستعمرات الأميركية.
حيث كان قد سمح البرلمان البريطاني لشركة الهند الشرقية بالبيع المباشر دون وسطاء، فاحتكرت الأخيرة السوق، ما سمح لها بالتحكم بالأسعار ورفعها، لتعويض الخسائر التي تكبّدتها لفشلها في تسديد ديونها لبنك إنكلترا بعد أزمة التامين.
فاستولى المتظاهرون على ثلاث سفن بريطانية في ميناء بوسطن، وألقوا بصناديق الشاي في المياه، وأشعلوا بذلك ثورة تحرر أميركا من الاستعمار البريطاني.
وأسهمت الأزمة أيضاً في سوء العلاقات بين المستعمرات الأميركية في الشمال وبريطانيا، نظراً لتأثيرها على المستعمرات الثلاث عشرة.
بنك أميركا وأزمة 1791
وفي ديسمبر/كانون الاول 1790، نادى وزير الخزانة في الولايات المتحدة الأميركية، أليكساندر هاميلتون، بإنشاء بنك أميركا وهو البنك الأوّل للولايات المتحدة الأميركية وصمم على غرار بتك إنكلترا، وبعد عام من طرح الفكرة، وفي فبراير/شباط 1791، وقع الرئيس جورج واشنطن على وثيقة بفتح البنك.
وأثناء الطرح الأولي العام للبنك، دفع المستثمرون 25 دولاراً للسهم، 25 في المئة منها في شكل عملة مسكوكة و75 في المئة، أوراق دين مالية.
وارتفع طلب أسهم البنك بنسبة كبيرة خلال فترة وجيزة لتبلغ 280 دولاراً في نيويورك و300 في فيلادلفيا في منتصف أغسطس/آب.
وفي حين اتسمت السوق بعدم الاستقرار، بدأت الأسعار في التراجع بسرعة كبيرة. لكن ومع تدخل هاميلتون بالتعاون مع وليام سيتون من بنك نيويورك، تم شراء 150 ألف دولار من الدين العام لتتم تغطيتها بالعائدات الحكومية، لتتعافى الأسعار مرة أخرى وليثمر ذلك عن إنهاء “ذعر 1792”.
أسباب ذعر 1792
إلاّ أنّه ما لبثت أن بدأت أسعار الأوراق المالية في الارتفاع مرة أخرى في نهاية 1791، حيث أدى الانهيار الحتمي في مارس/آذار 1792، لدخول العديد من المستثمرين في حالة من الذعر والتوجه لسحب أموالهم من بنك أميركا. خوفاً من تكرار تجربة بريطانيا. وواحد من أسباب هذا التدافع نحو البنك، فشل المشروع الذي وضعه كل من ويليام دوير وأليكساندر ماكوب في شتاء 1791. وكانت خطتهم تهدف لاستخدام قروض كبيرة للتحكم في سوق أوراق الدين الأميركية، نظراً إلى حاجة مستثمرين آخرين لهذه الأوراق لتسديد ما عليهم من أسهم في بنك أميركا.
ونتيجة لهذا الفشل وعجز دوير وماكوب، عن تسديد عقودهم ودخولهما السجن، تراجعت أسعار الأوراق المالية بنسبة قدرها 20 في المئة خلال أسابيع قليلة فقط. وما زاد حدة الذعر، القيود المفاجئة التي فرضها بنك أميركا على الائتمان، الذي اتسم بالسهولة في الماضي.
وعندما بدأ البنك قبول الإيداعات وطرح تخفيضات في ديسمبر/كانون الأول 1791، وسع بذلك دائرة الائتمان بنسبة كبيرة. وبحلول 31 ديسمبر/كانون الاول 1792، تجاوزت المطلوبات النقدية 2.17 مليون دولار، بينما بلغت التخفيضات 2.68 مليون دولار، المبالغ التي تعتبر ضخمة للغاية في ذلك الوقت. وفي الفترة بين 29 ديسمبر/كانون الأول إلى 9 مارس/آذار، انخفض احتياطي السيولة النقدية في بنك أميركا، بنحو 34 في المئة، ما دفع البنك لعدم تجديد 25 في المئة من قروض الثلاثين يوماً المستحقة.
ولتسديد هذه القروض، أُرغم العديد من المقترضين على بيع الأوراق المالية التي اشتروها في السابق، ما نجم عنه انخفاض كبير في الأسعار.
اقرأ أيضا: التضخم في بريطانيا يتجاوز توقعات الأسواق
إدارة الأزمة
بحلول منتصف مارس 1792، بدأ أليكساندر هاميلتون، مناورة ضرورية لاحتواء أزمة الائتمان التي انتشرت آثارها حول كل أرجاء البلاد. وأسهمت أيضاً الوثيقة التي تم بموجبها إنشاء بنك أميركا، في تكوين “لجنة الصندوق الغارق”، المنوط بها حل الأزمة المالية.
وفي سلسلة من الرسائل لوليام سيتون في بنك نيويورك، قدم هاميلتون عدداً من المعايير لاستعادة الوضع الطبيعي لسوق الأوراق المالية. وشجع هاميلتون، البنك على الاستمرار في تقديم القروض بضمانات من أوراق الدين الأميركية مع زيادة طفيفة في سعر الفائدة لتصبح 7 في المئة بدلاً من 6 في المئة.
ولإقناع بنك نيويورك، بتقديم القروض أثناء فترة الذعر، وعد هاميلتون بشراء الخزينة الأميركية من البنك ما قيمته 500 ألف دولار من الأوراق المالية. وفي أقل من شهر، تمكن هاميلتون، من الوصول لاستقرار سوق الأوراق المالية ومنع الذعر من التسبب في حدوث كساد في البلاد. وباستغلال نفوذه كوزير للخزانة وإقناع عدد من البنوك بالاستمرار في تقديم ائتمانات أثناء فترة الأزمة، تمكن هاميلتون من تقليص المبلغ الذي أنفقته “لجنة الصندوق الغارق” بنحو 100 ألف إلى 243 ألف دولار، مقارنة بما تم إنفاقه خلال الذعر الأصغر في 1791.
وبناء على نجاح هاميلتون في إدارة ذعر 1792، ينبغي على البنوك المركزية أن تقرض بحرية خلال الأزمات، مع وجود ضمانات قوية ونسبة من الغرامات، المعيار الذي لا يزال ذهبياً في إدارة الذعر المالي.
تداعيات أزمة الائتمان تسبب الذعر
في حالة من الانكماش التجاري، عمّ الذعر أرجاء المدن الساحلية الأميركية التي لم تتعاف حتى بعد 1800. ولم تقتصر المعاناة على مستثمري مشاريع الأراضي فحسب، بل طالت أيضاً أصحاب المتاجر وعمال الأجور اليومية. كما أن انتشار آثار الذعر لم تكن متساوية في أرجاء الاقتصاد، حيث عانت مدن الموانئ على طول الساحل الشرقي، أكثر من المناطق الريفية الداخلية، التي لم تتطور عندها شبكات الائتمان وسوق الصرف التي يمكن أن تجرها لأزمات في المستقبل.
وعكس الذعر أيضاً، الترابط الاقتصادي للجمهورية الوليدة مع أوروبا وتعرض الاقتصاد الأميركي اليافع لتداعيات الاضطرابات السياسية في أوروبا، التأثير الذي دفع توماس جيفرسون فيما بعد للتوقيع على قانون الحظر لسنة 1807، والذي عرف أيضا بقانون الانتفاضة، وصدر القانون في 22 ديسمبر/كانون الأول. وفرض الإجراءات الآتية: فرض حظر على جميع السفن والمراكب الخاضعة للولاية الأمريكية. منع جميع السفن والمراكب من الحصول على تصريح للذهاب برحلات إلى موانئ أو أماكن أجنبية. السماح للرئيس الأميركي بإجراء استثناءات للسفن في إطار توجيهاته المباشرة.
وكان الحظر سلاحا ذو وجهين، إلاّ انّ كفّة الميزان مالت اتجاه السيئات أكثر من الإيجابيات، ما غيّر تاريخ العلاقات التجارية الأميركيّة مع بريطانيا، وأدخل الولايات المتحدة في نظام اقتصادي جديد.
انقر هنا للاطلاع على المزيد من أخبار الاقتصاد.